الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد تقدّم في غير موضع.{وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي تساقطت؛ نثرتْ الشيء أنثره نثراً، فانتثر، والاسم النِّثار.والنُّثار بالضم: ما تناثر من الشيء، ودُرّ مُنثَّر، شدد لكثرة.{وَإِذَا البحار فجرت} أي فجر بعضها في بعض، فصارت بحراً واحدًّا، على ما تقدّم.قال الحسن: {فجرت}: ذهب ماؤها ويبِست؛ وذلك أنها أوّلا راكدة مجتمعة، فإذا فجرت تفرّقت، فذهب ماؤها.وهذه الأشياء بين يدي الساعة، على ما تقدّم في {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ}.{وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} أي قُلِبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء؛ يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهراً لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه.وقال قوم منهم الفرّاء: {بعثِرت}: أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة.وذلك من أشراط الساعة: أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها.{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأخرت} مثل: {ينبأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأَخر} [القيامة: 13] وتقدّم.وهذا جواب {إذا السماء انفطرت} لأنه قَسَم في قول الحسن وقع على قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} يقول: إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت، فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك.وقيل: أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها.وقيل: هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.قوله تعالى: {يا أيها الإنسان}خاطب بهذا منكري البعث.وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة.وقال عكرمة: أبيّ بن خلف.وقيل: نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الجُمَحِيّ.عن ابن عباس أيضاً: {ما غرك بربك الكريم} أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ {بربك الكريم} أي المتجاوز عنك.قال قتادة: غره شيطانه المسلَّط عليه.الحسن: غره شيطانه الخبيث.وقيل: حمقه وجهله.رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه.وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} قال: «غره الجهل».وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}؟ فقال: «غره جهلُه».وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أوّل مرة.قال إبراهيم بن الأشعث: قيل للفُضَيل ابن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} [الانفطار: 6]؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غَرَّني سُتُورك المرخاة، لأن الكريم هو الستَّار.نظمه ابن السَّماك فقال: وقال ذو النون المصريّ: كم من مغرور تحت السَّتْر وهو لا يشعر.وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري: وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يُلَبَّه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تُجبني؟ فقال.لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك.فاستحسن جوابه فأعتقه.وناس يقولون: ما غرك: ما خَدَعك وسَوَّل لك، حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: ي بن آدم ماذا غرك بي؟ يا بن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا بن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ {الذي خَلَقَكَ} أي قدرَّ خلقَك من نطفة {فَسَوَّاكَ} في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك {فعدلك} أي جعلك معتدلاً سَوِيّ الخَلْق؛ كما يقال: هذا شيء معدّل.وهذه قراءة العامة، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: {فعدلك} مخففاً أي: أمالك وصرفك إلى أيّ صورة شاء، إما حسناً وإما قبيحاً، وإما طويلاً وإما قصيراً.وقال موسى بن على بن أبي رَباح اللَّخْمي عن أبيه عن جده قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت هذه الآية {في أي صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ}: فيما بينك وبين آدم» وقال عكرمة وأبو صالح: {في أي صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ}: إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير.وقال مكحول: إن شاء ذكراً، وإن شاء أنثى.قال مجاهد: {فِي أي صورةٍ} أي في أي شبه من أبٍ أو أم أو عم أو خالٍ أو غيرهم.و{في} متعلقة بـ: {ركبك}، ولا تتعلق بـ: {عدلك}، على قراءة من خفف؛ لأنك تقول عَدَلْت إلى كذا، ولا تقول عَدَلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدّر {في} متعلقة بـ: {عدلك}، و{ما} يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛ أي في أي صورة شاء ركبك.ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قِرد أو حمار أو خنزير، ف {ما} بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك. اهـ.
فإنه قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الايمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس ولذا قال بعض العارفين لو لم أخف الله تعالى لم أعصه فكأنه قيل ما حملك على عصيان ربك الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه وقيل إن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أيضاً فإنه إذا قبل له ما غرك إلخ يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الاغترار بذلك في النظر الجليل وإلا فهو في النظر الدقيق كما سمعت وعن الفضيل أنه قال غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك: وقال بعضهم: وقال قتادة غره عدوه المسلط عليه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فقال الجهل وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ {أنه كان ظلوماًْجهولاً} [الأحزاب: 72] والفرق بين هذا وبين ماذكروا لا يخفى على ذي علم واختلف في الإنسان المنادى فقيل الكافر بل عن عكرمة أنه أبي بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ ولوقوعه بين المجمل ومفصله أعنى {علمت نفس} [الأنفطار: 5] {وأن الأبرار وأن الفجار} [الانفطار: 13، 14] وأما قوله تعالى: {بَلِ يَكْذِبُونَ بالدين} [الانفطار: 9] ففي (الكشف) أما أن يكون ترشيحاً لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالاً من المكذبين تغليظاً وأما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم وقرأ ابن جبير والأعمش {ما أغرك} بهمزة فاحتمل أن يكون تعجباً وأن تكون ما استفهامية كما في قراءة الجمهور و{أغرك} بمعنى أدخلك في الغرة وقوله سبحانه: {الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك} صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدأ أقدر عليه إعادة والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به وعدلها عدل بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلاناً بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء وقرأ غير واحد من السبعة {عدلك} بالتشديد أي صيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم إن عدل وعدل بمعنى واحد.{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن ونحوها فالجار والمجرور متعلق بـ: {ركبك} وأي للصفة مثلها في قوله: ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة {شاء} صفة لها والعائد محذوف وما مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لـ: {عدلك} وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي في صورة شاءها وقيل أي موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها وفيه أنه صرح أبو على في التذكرة بأن أياً الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية: وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافاً لابن عصفور ويجوز أن تجعل أي شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظراً إلى المتعلق والترتب ويجوز أن يكون الجار متعلقاً بـ: {عدلك} وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل فعدلك في صورة أي صورة أي في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب وأي هذه منقولة من الاستفهامية لكنها لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها ويكون {ما شاء ركبك} كلاماً مستأنفا و{ما} إما موصولة أو موصوفة مبتدأ أو مفعولاً مطلقاً لـ: {ركبك} أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيباً شاء ركبك وجوز أن تكون شرطية و{شاء} فعل الشرط و{ركبك} جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لـ: {صورة} والعائد محذوف ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بـ: {ركبك} لأن معمول {ما} في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه. اهـ.
|